العالم الإسلامي تحت الحصار
كانت صناعة الكراهية جزءاً أساسياً من استراتيجية الحصار التي ضربها الغرب على العالم الاشتراكي حتى أسقطه، رغم أن الفكر الاشتراكي لا يعني الاتحاد السوفييتي ولم يتوقف عند المذهب الشيوعي.
ويبدو أن الأمر يتكرر مع العالم الإسلامي رغم أن الإسلام لا يعني التنظيمات الإرهابية أو الجهادية السلفية أو المغامرات الداعشية، ولا يمكن اختصاره في الشكل المشوّه لأنظمة الحكم الفاسدة التي تحمل مسمى إسلامية أو تتشدق بأنها تمثله.
ولا تتوقف ماكينة الكراهية عند إنتاج سلع الكراهية الفجّة التي يكتشف كل شخص أنها مصطنعة، وإنما تتفنن في إنتاج سلع ظاهرها الرحمة وفي باطنها تكمن الكراهية.
كما إن غض الطرف عن تنظيمات إرهابية تنذر في بداية تكوينها بأنها تحمل رؤى مدمرة حتى تتضخم هو إحدى وسائل إشاعة الكراهية.
بل لا يتورع من يتحكم في تلك الماكينة عن التعامل مع تنظيمات إرهابية أو تقوية عزمها ودعمها لتحقيق أهداف محلية أو ضيقة كإشعال صراعات مذهبية أو حروب أهلية؛ متقبلاً فكرة خروج تلك التنظيمات عن السيطرة؛ لأنها في النهاية لو خرجت ستكون ضمن استراتيجية أشمل لصناعة الكراهية.
ولا يُمكنني السقوط في الاختصار الساذج لتلك الاستراتيجية في كونها بغضاً للإسلام وكراهية للمسلمين.
فالأمر يتجاوز الحب والبغض، بل ويتعدى المنافسة الدينية، فالقائمون على تلك الماكينة استعملوها حتى ضد الكنيسة الكاثوليكية في بعض مراحل التاريخ الأوروبي، وما زالوا يذكّرون بها من وقت لآخر كلما تبنت الكنيسة مواقف تخالف الرؤية العامة المرسومة لها في إطار النظام الدولي.
الرؤية الشاملة للحظة التاريخية التي تمر بها البشرية تجعل المرء يُدرك بعض الحقائق التي يراها مهيمنون على النظام الدولي مخاطرَ تهدد سيطرتهم على النظام وحقهم في توجيهه.
فالمسيحية انتشرت عبر عمليات واسعة للهجرة في القرون الثلاثة الماضية ضمت الأميركتين واستراليا وجزءاً مهماً من آسيا وإفريقيا إلى حظيرة الكنيسة الكاثوليكية التي تمثل جزءاً من بناء السلطة والنفوذ الكوني.
واليوم يشهد العالم انحساراً للهجرة المسيحية وتراجعاً للفكر الشيوعي، بينما في المقابل تمدداً ملحوظاً للون الأخضر الإسلامي. فمعدل المواليد العالي للمسلمين في العالم، بالإضافة إلى الهجرة من دول العالم الإسلامي إلى أنحاء العالم أصبح الأعلى عالمياً.
وقد أدى ذلك مع عوامل أخرى – بما فيها التركيز العالمي منذ أربعة عقود على الإسلام – إلى جعل العقيدة الإسلامية هي الأسرع انتشاراً.
لا يهتم النظام الدولي بالفكر والدين إلا إذا اعتبره خطراً على عملية معادلة تقسيم العمل الدولي وتوزيع النفوذ والثروة عبر العالم.
ولا شك فإن العالم الإسلامي الممتد من جاكرتا إلى مراكش قابضاً على سرّة العالم وأهم ممراته ومعابره البحرية والبرية والجوية، يمثل من وجهة نظر هؤلاء خطراً احتمالياً في حالة انتقاله من التشرذم لأي قدر من التكامل أو أي شكل من الوحدة أو حتى التفاهم.
ولذلك، فإن إبقاء العالم الإسلامي تحت ضغط عالمي مستمر، وإبقاء الإسلام في بؤرة التشكيك والاشتباه يسمحان بمنع تحول الخطر المحتمل إلى خطر حقيقي من وجهة نظر المستأثرين بالسيطرة والنفوذ والثروة على المستوى العالمي.
كانت منظمة التعاون الإسلامي خطوة كبيرة بعد حريق الأقصى في نهاية ستينات القرن الماضي، لكن هذه الخطوة تبخر أثرها مع التشرذم الذي ضرب العالم الإسلامي منذ الغزو الروسي لأفغانستان والتسوية المنفردة للسلطة في مصر مع إسرائيل. فقد نقل الحدثان العالم الإسلامي من السباق للمنافسة إلى الاختلاف والانقسام بين معسكرات متعددة ومتعارضة الرؤى.
وإذا كانت الرؤى المتعارضة تكفي مرحلياً لمنع بناء أي تكامل أو وحدة أو توافق، فإنه غير كاف على المدى الطويل؛ لذلك فإن التأسيس لتعارض المصالح يكون ضرورياً للحفاظ على مستوى عالٍ من الانقسام يمنع التوافق.
هذا على المستوى البيني، أما على المستوى الخارجي فإن اتهام الإسلام بأنه ينطوي بذاته على أسباب صناعة الإرهاب – رغم تكذيب التاريخ القريب لذلك – يؤدي إلى محاولة الجميع للتبرؤ من الإسلام كرؤية وتصور جامع لأبنائه.
كما أن وضع الدول الإسلامية في دائرة الشك باعتبارها حاضنة للإرهاب، يجعل السلطات الحاكمة -وأغلبها غير ديمقراطي ويفتقد التأييد الشعبي- تُسارع إلى تبني أي إجراءات وكل ما ينصحها به المهيمنون على النظام الدولي للتخلص من تلك التهمة.
كان الحصار الرباعي الأخير على قطر من أربع دول إسلامية فاضحاً لكيفية إعادة استعمال تلك السلطات للاتهامات نفسها التي توجه إليها من الخارج بغرض تحقيق انتصار على بعضها؛ دون أن تُدرك أن انكسار أي طرف هو انكسار للجميع حتى لو شعر البعض بأنه انتصر، فهو انتصار كاذب.
ومثّل ذلك – من وجهة نظري – الاستسلام الأخير لمكينة الكراهية التي نجحت في حرق ملابس الجميع فظهروا عُراة من كل انتماء حضاري.
لذلك فإن إشاعة الديمقراطية في العالم الإسلامي تمثل طوق النجاة للمسلمين ولا أقول للإسلام فله ربّ تعهّد بحفظه.
ولذلك ينظر المهيمنون على النظام الدولي والسلطات الحاكمة في بلادنا لثورات الحرية باعتبارها خطراً عليهم، سواء على عروش الحكام أو على خُطط النظام الدولي للاستمرار في حصار العالم الإسلامي؛ لكي لا يتحول أبناؤه من التسابق على الموت كالفراش حول الحطب المشتعل لحرقهم، إلى التنافس على الحياة.
محمد محسوب