ما إن تم الإعلان عن زيارة الرئيس لمدينة كيفة حتى تنادى “القوم” من كل حدب وصوب شيبا وشبابا، رجالا ونساء مثلما يفعلون في كل مناسبة، وانطلقوا مسرعين إلى المدينة الشاحبة الواقعة على هامش الأحداث بفعل سياساتهم الفاشلة، فاستقبلهم بعطف وحنان كما تفعل الأم تماما ببنيها حتى وإن خانوا العهود، وكانوا لها من العاقين.
وهكذا احتشد سكان ولاية لعصابة مرة أخرى لحضور فصل جديد من مسرحية “صفقوا”، أو إن شئت فقل إن الرئيس جاء ليحضر مسرحية أبطالها أطر الولاية ووجهاؤها وكومبارسها جمع غفير من البسطاء يغرر بهم كل مرة ولا يتعظون.
وصل الرئيس مدينة كيفة صباح اليوم .. ثاني أكبر مدن البلاد وأكثرها حاجة إلى البناء والإعمار .. إلى التخطيط والتنظيم .. إلى الطرق والمدارس والمستشفيات .. إلى الماء والكهرباء .. إلى تنمية شاملة تأخذ في الحسبان المقدرات الاقتصادية للمنطقة من ثروة حيوانية ومراعٍ وواحات وأراضٍ صالحة للزراعة.
وصل الرئيس وقد استقبلته في الجانب المغيب من الزيارة أنات شعب مسكين تنبعث من بيوت وأعرشة هشة قرب بوابة المطار -استقبلته- بوخز الضمير، وربما أشعرته نظرات شاردة لفتية بائسين عند ملتقى الطرق في قلب المدينة بتأنيب الضمير، وستودعته المباني المتهالكة والمعالم المندرسة والذكريات المطمورة في غوميز والسيف ولقليك والجديدة والقديمة … بشيء من الندم والحسرة والأسى ..!
وصل الرئيس واستمع في المنصة الرسمية لمحدثيه عن الإنجازات بما يسر لحظة ويضر دهرا؛ الافتراضي منها و”الواقعي” والمؤمل ..!
وعن الطفرة الاقتصادية التي يشهدها البلد عموما ..!!
وعن السلم الأهلي والانفتاح على المعارضة؛ وتلك اسطوانة دأب كل محدّث موالٍ على ترديدها منذ الاستقلال إلى اليوم؛ حيث يرسم لوحة وردية لوطن يتذيل قائمة الدول النامية.
إن سكان مدينة كيفة لا يهمهم الانفتاح ولا تجديد البيعة، ولا حتى الإنجاز ما لم يكن في الحقيقة يوفر الماء الصالح للشرب والطاقة الكهربائية، ويوفر فرص عمل تستقطب أبناء المدينة العاطلين عن العمل، المشردين في وطنهم، والمهاجرين (المهجرين) قسرا في سبيل البحث عن أسباب الحياة.
إنهم يتطلعون إلى نظام صحي عصري يعفيهم مشقة الاستشفاء خارج المدينة .. وإلى تعليم جيد يعد مواطنا صالحا، وإلى مدينة مخططة .. إلى ملاعب وشوارع وساحات.. إلى بيئة نظيفة .. إلى مزارع ومصانع ومعاهد .. وإلى حماية الوسط الطبيعي من العابثين به من الفحامين والقناصين الذين سيحولون الغابات في بضع سنين إلى صحاري جرداء يعز فيها النبات والثبات.
يزور الرئيس مدينة كيفة اليوم وقد اتخذ نظامه الجماعات التقليدية واجهة مزينة ووسيلة “لإنجاح الزيارة” وفي ذلك تنتعش القبلية وتهيج مشاعر الناس من أبناء الفقراء في اصطفافات وتجمعات ضرها أكثر من نفعها.
وكأن النظام اختار أن يطبق ما أورثه الاستعمار من سياساته ك “فرق تسد” حين يعمد إلى تمزيق المجموعات من خلال الشحن القبلي و“اجمع واحكم” حين تجد كل قبيلة نفسها وقد أرغمها الطمع في المكسب والمنصب، وأجبرها الخوف من الإذلال والتهميش إلى إعداد “حصرة” يتباهى منظموها بالعدد وببلاغة أو “بولغة” خطاب الولاء؛ وهي تدفع بفرسانها إلى المناصب الإدارية والانتخابية دون مراعاة لمعايير الكفاءة والنزاهة والأهلية …
تحدث مستقبلو الرئيس في المنصة الرسمية صباح اليوم ولسان حالهم يقول:
-إن الكرامة تهون وقت المغانم..!
-والصدق ليس مطلوبا دائما ..!
-وإن حرية الرأي شذوذ في المجتمعات التقليدية..!
-والمعارضة جريمة تستوجب التعزير والتكفير ..!
-والاستقامة ضعف وهوان ..!
-وارتفاع الأسعار ظاهرة عالمية ..!
-والتنمية تتحقق بالأمنيات ..!
-وتنامي الخطاب الفئوي والشرائحي والقبلي من مظاهر الديمقراطية الحقة..!
-وقيمة القطيع تكمن في الانسياق خلف الراعي..!
-وإن مكر الذئب (السياسي) حكمة ودهاء ..!
إنهم يحتشدون في المنصة الرسمية .. يقولون ويتقولون ويصفقون ثم يغادرون المدينة مثلما دخلوها.
ووتواصل فصول مسرحية “صفقوا” مع نفس الأبطال أمام أي رئيس يزور المدينة الشاحبة.
الحسن ولد محمد الشيخ ولد خيمت النص