لستُ عضوا في حزب “تواصل” رغم أن ذلك كان سيشرِّفني، ولو كنتُ منخرطاً في المعترك الحزبي الموريتاني لما ابتغيتُ به بدلاً، ولا أنا مطَّلع بالكامل على حيثيات قراراته السياسية وترتيباته الداخلية، رغم أني على “تواصل” مع بعض قادته ومناضليه، باعتباري مناصرا للحزب، وأحد “إخوان الإخوان”.
لكني سأسمح لنفسي في الإدلاء برأيي في التطورات الأخيرة في الحزب التي قادت إلى تجميد أحد قادة الحزب البارزين نشاطه فيه، بعدما سبقه لذلك قادة آخرون، صراحة أو ضمنا، إعلانا أو إسرارا.
فتكرار سخط القادة الأكفاء، وانكفائهم على ذاتهم بعيدا عن الحزب، يوحي بأن هذه الظاهرة جديرة بالتأمل والتمحيص والتلافي، قبل أن تستفحل فتضرَّ بهذه القوة السياسية الفتية، التي أضْفتْ على الساحة الموريتانية منذ تأسيسها حيوية وأصالة وأملاً متجدداً.
ولستُ أخوض في هذا الموضوع نصرة لأشخاص بأعيانهم، بل تشخيصا لظاهرة عامة أرَّقتْني منذ أعوام، وأصبح السكوت عليها من تأخير البيان السياسي عن وقت الحاجة السياسية إليه.
لقد كشف تواتر هذه الظاهرة في حزب “تواصل” في الأعوام الأخيرة عن أزمة مزدوجة في الحزب، يمكن أن ندعوها “مأزق المحاصرة والمحاصصة”.
وأقصد بالمحاصرة استراتيجية خاطئة اعتمدها قادة الحزب وصاغَةُ قراره الاستراتيجي في الانتخابات الحالية بشكل رسمي، ومالوا إليها بشكل غير رسمي في الماضي، وهي عدم إعادة الترشيح لمنتخَبيه السابقين، ومحاصرتهم وتهميشهم وهم في قمَّة عطائهم، وتصعيد مرشحين جدد، دونهم في الشهرة والدراية والتمرس بالعمل السياسي.
وبذلك فرَّط الحزب في الخبرات السياسية المتراكمة، وفي أبرز وجوهه المعروفة لدى الرأي العام، فحَرَم نفسه نعمة البناء المتراكم الذي هو أساس كل عمل سياسي سليم.
وكنتُ كتبتُ عن هذا منذ أعوام، بمناسبة التغيير القسْري لقيادة الحزب، تشبثاً بنظام داخلي جامد لا يراعي الفرق بين المناصب التنفيذية وغير التنفيذية، وكان الأوْلى -في رأيي- عدم إقرار ذلك النظام الجامد أصلا، أو تغييره بدلا من اتخاذه ذريعة لإقصاء أهل الخبرة والتجربة والدراية. وبيَّنتُ حينها أن المناصب الحزبية والبرلمانية ليست مناصب تنفيذية، فليس يضرُّ طولُ المكث فيها ما استمرَّ العطاء السياسي، بل المطلوب البقاء فيها لبناء الخبرة المتراكمة، والرصيد المتعاظم.
إن معايير الأهلية السياسية في الإسلام ثلاثة: وهي:
الأمانة ويقصد بها الجانب الخلقي من الشخصية.
والقوة والمقصود بها التجربة والخبرة العملية.
والمواءمة والمقصود بها القبول المجتمعي العام.
ومن سوء التقدير والتدبير أن تفرِّط الأحزاب السياسية بأهل الأمانة والقوة من أبنائها وبناتها، بعد أن استثمرت فيهم جهدا كثيفا، ومالا وافرا، ووقتا ثمينا، حتى أصبحوا قادة سياسيين لهم حضورهم ومكانتهم الوطنية والإقليمية والعالمية.
بل الحكمة السياسية تقتضي الإبقاء على هؤلاء، وعونهم على ترسيخ حضورهم، صُعُداً في السُّلَّم الاجتماعي والسياسي، حتى يصبحوا مؤهَّلين -ومؤهِّلين للحزب- لقيادة البلاد كلها.
والمانع الوحيد الذي يسوِّغ التفريط في هذا الاستثمار طويلِ المدى هو طروءُ عجزٍ ظاهر أو خيانةٍ ثابتة على القائد المنتخَب، لا يدَع مجالا لإعادة ترشيحه.
وأنا على يقين أن لا أحد من الصف القيادي التواصلي الذي أُبعدَ عن الترشيحات الأخيرة قد ثبتت في حقه خيانة، أو ظهر في أدائه عجز، بما يسوِّغ إقصائه والتفريط في تاريخه النضالي، وفي استثمار الحزب فيه.
يستكثر حزب “تواصل” على أهل الأمانة والقوة من قادته أن يمكثوا في البرلمان أكثر من دورة واحدة، وكأنه يعيد اكتشاف النظام الديمقراطي لأول مرة، وهو النظام الراسخ الذي طبقته المجتمعات البشرية منذ قرون.
علما بأن الأحزاب السياسية في أعرق الديمقراطيات الغربية لا تحدِّد سقفا زمنيًّا للدورات البرلمانية التي يتولَّاها منتخَبوها ما داموا قادرين على إقناع الناخب، ولا تقيِّدُ عدد الأعوام التي يتولاها قادة الحزب ما داموا قادرين على العطاء.
وأنا أعرف بالاسم عدداً من أعضاء في الكونغرس الأميركي استمروا في عضويته أكثر من نصف قرن من الزمان، ولم تَحْرمْهم أحزابُهم من العودة للترشُّح طيلة هذه الحقبة، منهم “جون دينغل” الذي أكمل 59 عاما في المنصب، و”روبرت بيرد” (57 عاما في المنصب)، و”دانييل إينوي” (53 عاما في المنصب)، و”جون كونيرس” (52 عاما في المنصب).
وفي تاريخ الكونغرس الأميركي ثلاثة وثلاثون نائبا ممن تجاوز كل منهم أربعين عاما في عضويته.
بل إن الرئيس الأميركي الحالي “جو بايدن” مكث ستة وثلاثين عاما عضوا في مجلس الشيوخ الأميركي، قبل انتخابه نائب رئيس، ثم رئيسا.
وهو لا يطمع طبعا بالمكوث في الرئاسة أكثر من ثماني سنين (إذا نجح أصلا لولاية ثانية)، لكن بقاءه في الكونغرس لم يكن محددا بسقف زمني، ولعل مكثه فيه كان سيستمر لو لم يُنتخبْ لمنصب تنفيذي.
وهذا من التمييز الحسن في الفقه الدستوري الأميركي بين المناصب التنفيذية والمناصب غير التنفيذية. ومع ذلك فإن بعض الديمقراطيات لا تمانع من فتح السقف الزمني في الوظائف التنفيذية، ما دام ذلك مضبوطا بعرض القادة على الشعب في انتخابات دورية، لإصدار حكمه عليهم إزاحةً أو إبقاءً.
وقد يكون هذا الأمر مناسبا في فترات الانتقال الحرِج، حيث تتعاظم الحاجة إلى القيادة القوية المستقرة.
وهل حققتْ ألمانيا معجزتها الاقتصادية حتى أصبحت مصنع القارة الأوروبية كلها إلا تحت سلطة أنجيلا ميركل التي دامت ستة عشر عاما؟ وهل حققت تركيا نهضتها الرائعة ومصالحتها مع ذاتها -بعد ثلثي قرن من التيه- إلا تحت قيادة رجب طيب أردوغان الذي يقود البلاد منذ عَقْدين، وهو اليوم مرشح لقيادتها بضعة أعوام قادمة؟
أما مشكلة المحاصصة فهي الوجه الآخر لأزمة “تواصل”، وهي الهوَس لدى بعض قادة الحزب ومناضليه بمسألة التوزيع العرقي والاجتماعي والجهوي للمناصب الانتخابية على حساب الكفاءة السياسية والمواءمة الاجتماعية.
ورغم أن من الطبيعي حرص الأحزاب السياسية على الامتداد الوطني العابر للجهات والكتل الاجتماعية من خلال مراعاة التوازن في ترشيحاتها، فإن ذلك يجب أن لا يكون على حساب الكفاءة السياسية والمواءمة الاجتماعية.
فالأحزاب السياسية ليست هي التي قسَّمت المجتمع إلى عرقيات مختلفة وقبائل شتى، بل هذا تشكُّلٌ تاريخي عمره مئات -وربما آلاف- السنين.
ومهما يسعى حزب سياسي إلى تجاهل هذه الفواصل الاجتماعية في عمله التربوي والثقافي الهادف إلى بناء صفوة متعلمة تتعالى على بعض الأعراف الاجتماعية، فإنه لا يستطيع تجاهلها في المجال الانتخابي، حيث يكون رأي العوام بفطريَّتهم وتحيزاتهم العفوية هو الحكَم والفيصل.
وإلا فهل يتوقع عاقل من حزب سياسي موريتاني أن يرشِّح في تجمع سكاني شخصا لا تربطه بذلك التجميع السكاني أية رابطة، ولا يحظى بأي قبول مجتمعي في تلك البيئة الاجتماعية؟
أعتقد أن الإصرار على المحاصصة في كل الظروف والأحوال أمر غير سليم ولا حكيم. وأن تحوُّل الأمر إلى هوَس لدى بعض التواصليين أضرَّ بمستوى الكفاءة السياسية والمواءمة الاجتماعية لدى الحزب.
وهو سيضر -لا محالة- بالمسار التصاعدي للحزب، وأخشى أن يقوده إلى تراجعات جدِّية في الكسب الاجتماعي والسياسي على المدى البعيد.
لقد تأخَّر بسبب هذا الهوَس التحاصُصي مَن حقُّه التقديم بمعايير الأمانة والقوة والمواءمة الاجتماعية، وتقدَّم مَن واجبه التأخُّر لعدم تحقق هذه الأمور فيه.
وما كان لهؤلاء أن ينجحوا في الوصول إلى المناصب الانتخابية لولا الانضباط التنظيمي والفكري في الحزب، وتماسُك قاعدته الانتخابية الصلبة.
فنجاحهم دليل على انضباط القاعدة الاجتماعية الصلبة للحزب، لا على كفاءتهم أو قبولهم المجتمعي العام. ومن غير القبول المجتمعي العام تتجمد الأحزاب السياسية، وتتحول كيانات نخبوية فئوية، منبتَّة عن خضمِّ المجتمع العريض. وقد تبقى عقودا من الزمان وهي تراوح مكانها دون نمو سياسي أو نماء اجتماعي.
أعتقد أن الكفاءة والخبرة المتراكمة هما أعظم ضحيتين لمعضلتيْ المحاصرة والمحاصصة في حزب “تواصل”.
ومن غير الكفاءة والخبرة المتراكمة سيظل الحزب يبدأ من الصفر دوريًّا، لفقدانه صفوة قادته كل بضع سنين.
فيظهر في كل انتخابات جديدة في صورة الحزب الوليد الذي يخوض المعترك السياسي لأول مرة، بوجوه طريَّة لم تخض المعترك السياسي من قبلُ.
وهذه ليست استراتيجية حزب رصين يملك رؤية للمستقبل البعيد. وإلا فكيف لمتابع للشأن السياسي الموريتاني عموما، وللشأن الحزبي في “تواصل” خصوصا، أن يتصور صدور لوائح ترشيح طويلة عريضة عن الحزب، ليست فيها أسماء أبرز شخصياته السياسية ذات الخبرة المتراكمة؟ وما الفائدة من إحالة هذه الصفوة كلها على التقاعد السياسي القسري المبكِّر سوى تعثر التطور السياسي، وتضييع الرأسمال المتحصل، وشحْن الأنفس بالإحساس بالغبن، وفتْح باب الهمس والقيل والقال في صفوف الحزب وقاعدته الاجتماعية؟
يعتقد بعض المطلعين على بواطن الأمور أن قرار إبعاد كل المنتخَبين السابقين من لوائح الترشيح الحالية لحزب “تواصل” يعود إلى السعي لكبت أي صوت ناشز، ووأد أي مَنزع للخلاف الداخلي، من أجل التحرر من التباينات التي ظهرت في الحزب خلال الأعوام الأخيرة.
وهذا المسعى فيه شيء من المثالية والسذاجة السياسية، فالخلاف السياسي لا يُوأَد باجتثاث طليعة حزبية كاملة بكل إرثها المتراكم، وتجربتها الثريِّة، وإنما بقبول الاختلاف الداخلي، وإدارته بالحسنى، والاعتراف بأن الأحزاب السياسية ليست أخَويَّات تربوية أو طرقا صوفية، يسود فيها هضم النفس، واتحاد الرأي، وإيثار الأخ لأخيه.
وإنما هي ميدان للصراع والتدافع، والتنافس على المنافع. ولا ضير في ذلك ما كان ضمْنَ حدود الشرع، وأنظمة الحزب.
ورحم الله العلامة ابن خلدون إذ كتب في مقدمته: “المُلْك منصب شريفٌ ملذوذٌ، يشتمل على جميع الخيرات الدنيوية، والشهوات البدنية، والملاذِّ النفسانية، فيقع فيه التنافس غالبا.”
لستُ أشكِّك في كفاءة المترشحين الحاليين -معاذ الله- فلكل منهم فضله واحترامه وسابقته، ولا أشك في كفاءة ثلة منهم على الأقل.
لكنهم لا يملكون خبرة من مارسوا الحياة البرلمانية والبلدية من قبل، وكان الأوْلى منْحُ المترشحين الحاليين فرصة التنافس الداخلي مع القادة السابقين بنزاهة، وتحدِّيهم بشفافية، دون حرمان للقادة السابقين المخضرمين من الاستمرار في الترشح، ما رضي بهم الناخب واستمر عطاؤهم.
ومن المؤكد أن التنويع مطلوب، وأن التوازن مرغوب، وأن ضخَّ دماء جديدة في الحزب أمرٌ لا غنىً عنه، لكن التفريط في القيادات ذات التاريخ والخبرة المتراكمة ثمنه فادح، فضلا عن أنه باب من أبواب التصدُّع والاستنزاف لا يخدم الحزب ومستقبله السياسي.
ويبدو أن حزب “تواصل” يثق في تماسك قاعدته الصلبة، وفي التزامها بقراراته ترشيحا وتصويتا، بغضِّ النظر عن اقتناعها بكفاءة المترشحين.
ولا شك أن هذه من نقاط قوة الحزب، لكن يبدو أن هذه الميزة التواصلية سيتم هدْرها مع الزمن، حين تساق القاعدة الحزبية الملتزمة أكثر من مرة إلى التصويت لأشخاص يوجد من هم أفضل منهم كفاءة وخبرة، فتصوِّت ببرود دون حماسة أو اقتناع.
فضلا عما في هذا من تضييع فرصة الاستمرارية والاطِّراد في الوعي العام، وهي فرصة لا تتحقق لممارس سياسي إلى بعد أن يملأ أسماع الناس وأبصارهم حقبة طويلة.
لو كان من الأمر شيء في حزب “تواصل” لدعوتُ -بعد الانتخابات القادمة مباشرة- إلى مؤتمر استثنائي بعنوان “مؤتمر التواصل بين الماضي والمستقبل”، لمناقشة بدعة الحرمان من ترشيح ذوي المناصب الانتخابية التي انفرد بها الحزب، والكشف عن مخالفتها للضوابط الدستورية السائدة، ولأعراف الأحزاب السياسية الديمقراطية، ومخاطرها على مستقبل الحزب ورأسماله الاجتماعي والسياسي، وما تؤول إليه من تجريد الحزب من صفوة قادته.
ثم مناقشة مأزق المحاصصة، وما تقود إليه من التفريط في أهل الكفاءة، والنظر في ترطيبها حتى لا تظل هاجسا يُعمي عن مقاصد الشرع وحكمة السياسة في تقديم أهل الأمانة والقوة والقبولِ المجتمعي.
فلعل هذا المؤتمر يخرج برؤية استراتيجية تفتح للحزب ثغرة للخروج من مأزقه المزدوج.. إذ توجد دائما ثغرة في الطريق المسدود.
وكلمة أخيرة للقادة التواصليين من ضحايا مأزق المحاصرة والمحاصصة، الذين تم إبعادهم واستبعادهم: أتمنى أن يتَّسم هؤلاء القادة بالتروِّي والحكمة، والبحث عن مخارج كريمة لأنفسهم وللحزب.
فالفراق السياسي يشبه الفراق الاجتماعي إلى حد كبير، من حيث حاجته إلى الصبر، والمروءة، وقيم المعروف والإحسان التي أمر بها الإسلام.
والأنسب لمن يتحفَّظ على بعض خيارات الحزب، أو يحسُّ بالغبن في صفه، أن يصبر ويراهن على التغيير من داخل الصف.
فإن لم يستطع فليجدْ لنفسه مخرجا كريما، وسراحا بإحسان، دون نسيان الفضل بينه وبين إخوانه، أو هدم ما شارك طيلة عمره في بنيانه.
دعواتي لمرشحي حزب “تواصل” في هذه الانتخابات، وكل انتخابات، بالفوز المظفَّر، والنصر المؤزَّر. وتمنياتي للديمقراطية الموريتانية بالنجاح والفلاح.