لم تعرف بلادنا في القرون الوسطى ولا الحديثة أي نظام سياسي يحكمها إلا ما كان من دولة المرابطين؛ فقد ظلت عصية على النظام والتنظيم لأسباب بعضها جغرافي و بعضها تاريخي، ومع تنامي التوسع الاستعماري الأوروبي في العالم كانت المنطقة محط الأنظار لموقعها الجيوستراتيجي .
دخل المستعمر الفرنسي إلى البلاد مع مطلع القرن العشرين في حدود 1900م بعد بعثات استكشافية ورحلات استشراقية ثم اتفاقيات على مدى عقود بين الفرنسيين في الضفة الجنوبية للنهر الصنهاجي( السنيغالي) و بعض الأمراء والمشاييخ على الضفة الشمالية له .
وقد كان الاتفاق المبرم بينهم و بعض هؤلاء الأعيان سنة 1899م نقطة تحول جذرية؛ حيث منحهم الضوء الأخضر للدخول والاجتياح، غير أن المقاومة العسكرية كانت في البدء بالمرصاد للمستعمر ؛ فضربت وأوجعت؛ إلا أن الفرنسيين المدججين بالسلاح والمحاطين بالأعين والعملاء تمكنوا في النهاية من بسط سيطرتهم على كامل البلاد سنة 1920م؛ فاتخذت فرنسا حينها كل السياسات والأساليب الاستعمارية انطلاقا من المبدأين الاستعماريين المعروفين : “اجمع و احكم” فكانت “الحصرات” و “الصنكات” و”فرق و تسد” فكانت “الزوكة” (التغريب).
وعمدت إلى تمرير أجندتها، من نهب للثروات و نشر للقيم العلمانية، وصناعة للعمالة التي تحولت مع الزمن إلى التملق والتزلف لأنظمة الاستبداد .
وبعد خروج فرنسا منهكة ضعيفة من الحرب العالمية الثانية تصاعدت ضدها حركات التحرر في العالم التي ساعدها وجود نظام عالمي جديد تقوده الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي المنتصرتان في الحرب، وكذلك هيئة الأمم المتحدة الداعية إلى افساح المجال للشعوب من أجل تحقيق مصيرها .
في هذه الفترة شهدت البلاد مخاضا عسيرا و ليا للأذرع بين المناهضين لفرنسا -و أغلبهم شباب حديث العهد بالسياسة و الانفتاح- من جهة، و موالين لها من أعوان مترجمين وموظفين وأعيان و وجهاء…
وأمام الضغط الخارجي العالمي و النضال السياسي الداخلي اضطرت فرنسا إلى منح الاستقلال رغم انتصار رغبتها الاستعمارية في الاستفتاء الديكولي .
و بذلك طوت مرحلة استعمارية دامت ستين عاما من الاستغلال والنهب و محاولة طمس الإرث الثقافي الاسلامي للمجتمع، وغمط الهوية العربية فيه .
خرجت فرنسا من البلاد ظاهريا و هي التي لم تبن مرفأ ولا جسرا ولا طريقا، لكنها نهبت و شردت و قتلت .. و كرست العبودية و حمت الممارسات القبلية المشينة و استهترت بالسكان و استغلت المستضعفين و أذلت الجميع .
استقلت موريتانيا -إذا- بعد ستين عاما من استعمار
لم يترك غير فكرة قيام دولة في منطقة لم تعرف في الماضي القريب و لا المتوسط أي نظام سياسي جامع.
ترك الاستعمار الفكرة مشوبة بنظام قبلي طبقي يعمل على إعاقة البلد الناشئ -ولايزال- رغم ما بذله الجيل الأول من محاولة بلورة مفهوم الدولة، و رغم ما بذله جيل الكادحين من تأطير وتثقيف وتوعية بضرورة مسايرة ركب الأمم المتحضرة والتخلي عن جاهلية منتنة .
و هكذا بدأت الدولة الوليدة (موريتانيا) أولى خطواتها مع نهاية العام 1960م، و حكامها مزهوون بجميل الحظ و منبهرون من ثقل العبء ؛ عبء مسؤولية بناء بلد مترامي الأطراف، تسوده البداوة والتخلف، لكنه يمتلك ثروات واعدة ستكشف الأيام و السنوات اللاحقة عن قيمتها، و عن قدرتها على النهوض به . وقد اتضح أن موريتانيا تمتلك :
– ثاني أكبر منجم للحديد في افريقيا إلى جانب منجمي النحاس والذهب المستغلين .. مع وجود النفط والغاز المكتشفين حديثا بالإضافة إلى معادن أخرى لم تستغل بعد .
-ثاني ثروة سمكية على المستوى العربي
-ثالث ثروة حيوانية على المستوى العربي
– أراضي صالحة للزراعة تكفي لتحقيق الاكتفاء الذاتي و أكثر .
-بحيرات سطحية و جوفية غير مستغلة. و أودية تضيع مياهها هدرا.
-اماكن سياحية كثيرة متنوعة تنوع تضاريس البلد (الصحراء و الشواطئ و السهول و الأودية و المدن العتيقة والتاريخية) .
و تسارعت الأيام والأحداث، وتنوعت الأحكام والأنظمة ؛ فكانت النتيجة:
-أن البلد في المرتبة 134 من حيث جودة التعليم ، و 157 على مؤشر الأمن الصحي العالمي لسنة 2019م
-أن أغلب المدن و القرى تعاني من شح في الماء الصالح للشرب، و خدمة الكهرباء ضعيفة في مناطق و غير متوفرة إطلاقا في مناطق واسعة من البلاد رغم وجود فائض في الإنتاج يتم تصديره.
-أن البطالة منتشرة بين الشباب
-أن الهجرة تستقطب الكثير حوالي 318000 نسمة مهاجرين من بينهم أصحاب كفاءات كثر .
-أن دخل الفرد لا يتجاوز 1300 دولار سنويا
-أن هناك استيرادا شبه تام للمواد الغذائية الضرورية (الحبوب و الخضروات و الزيوت….) و استيرادا كليا للدواء و الملابس و الأثاث و المركبات.
-أن هذه هي موريتانيا باختصار ؛ ستون عاما من الاستعمار و ستون أخرى من الاستقلال و النتيجة تساوي مائة وعشرين عاما من الاستغلال الممنهج للموارد و للشعب .
الحسن ولد محمد الشيخ