كيفة الماء و الولاء !
أطلت الشمس خجولة ذات صباح ، من خلف غيمة كانت قد امتلأت غضبا علينا و اسودت حزنا على مصيرنا ، فآثرت الاحتجاب و تركتنا في قحط شديد .
في ذلك اليوم قصدت السوق كالعادة ألتمس أخبار الغيث، و أخوض مع الخائضين في جديد السياسة و تعيينات الخميس و حظ القبيلة .
جلست أتناول أطراف حديث مجتر ، كان يتأثر إيجابا بدرجة الحرارة .. و أثناء ذلك دلف علينا المحل رجل حسن المظهر لا يرى عليه أثر السفر ، لكننا نعرفه و نعرف أصله و فصله .. توسط المجلس و بدأ الكلام فكان في حديثه خطابة تستعذبها الآذان و في هيئته مهابة تطمئن لها الأعين .
كان حديثه المتبل بالقبلية طعما أوقعنا جميعا في مصيدته ، فلم ينبس أي منا -لحظتها- ببنت شفة و كأن العطش قطع الحبال الصوتية .
أمعن النظر جيدا فتعمد إثارتنا بالحديث عن الماء و الولاء و علاقة ذلك بالانتخابات في زمن الجدب و الغلاء، فتدفقت خيبات الأمل من الزبناء قبل الجلساء و نحن إذ ذاك في أحد دكاكين الأمل.
عدت سريعا إلى ذاكرتي، أفتش عن بعض النضالات فوجدتها غصت بأفكار مشوشة أعياها الكبت و التجاهل فانتفضت جاعلة من عطش السكان مرعى خصيبا تقضم منه بنهم و تلوك بشره متجاوزة الحدود الطبيعية في التعاطي مع الأحداث لتكسر فجأة قيود التبعية العمياء و الحمية الجوفاء .
حاولت التحكم فيها فشردت بعضها جامحة تلتمس للمتملقين عذرا و هي تنشد :
ليس التملق في عصرنا خطأ
فالناس قد مسها الإملاق و الظمأ
و الصيف قد جاد في التخبيل مقدمه
شحا و بات يسوس القوم من نكأوا
مسحت الهم و الأحزان ، و مسحت الطاولة مع ديكارت كي أعتز المنطلقات من جديد ، فكنت افكر في صخب لم أستطع معه تحليلا للواقع و لا تخطيطا للمستقبل ، لتجد نفسي نفسها رخيصة على موائد أصحاب المال و الجاه من ذئاب الساسة و رعاة القطعان .
سرت أبحث عن الأنا ، فوجدت العقل يسخر في صمت من جموع حشدتها “ثأرات كليب” و قد تم استنفارها لغزو الحقيقة و تلميع الواقع المر بانتخابات لا تسقي ظمأ السكان .
ديست الكرامة ساعتها، و اغتيلت الشهامة ، و فرت المروءة نحو المجهول تاركة هياكلنا تجر أذيال العار فوق التلال تذل و تهان .
عندها تجهم النهار في وجه الداعين لاستمرار النهج ، و عبس الليل في مصير المعارضة .
فأثقل القلب بؤس العباد و ضاق الصدر بعسر البلاد ، و امتطى اليراع صهوة الصحف يشق عباب الخيال ، يمخر بياض الصفحات ليترك بين السطور كلمات ليست كالكلمات ؛ كلمات شاحبة كوجوه عطاش مدينة كيفة .
الحسن محمد الشيخ .