جوابا على سؤال/ سيدي ولد أحمد مولود
يتساءل بعض المثقفين المهتمين بالتاريخ وعلم الاجتماع عن الأصول الحقيقة للسكان الموريتانيين القدامى: هل هم عرب أم بربر؟ وإذا كانوا بربر، فما سِرُّ ذوبانهم في العرب؟
ورغبة مني في إثراء النقاش بما هو مفيد، أقول إن العروبة لسان، وليست عرقا، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم من أصل أعجمي لأنه من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام الذي استوطن مكة المكرمة بين قبائل جُرْهم حتى تعرَّب على لسانهم، فصار بذلك من العرب المستعربة، وليس من العرب العاربة، كما أن تسعين بالمائة من الأنبياء عليهم السلام ينتمون لعنصر العجم، وهذا أمر معلوم، وأسماء الأنبياء تدل على ذلك (إبراهيم، إسماعيل، هارون، داوود وسليمان…) وقلة قليلة منهم هي التي تنتمي للعرب مثل: صالح وشعيب عليهما السلام.
وحين جاء الإسلام بوصفه رسالة ربانية عالمية عرَّب كثيرا من الأمم التي دخلت فيه مثل البربر في المغرب العربي، والفراعنة والقبط في مصر، وآشور العراق وكلدانها، وجزءا كبيرا من الفرس والترك والكرد، وكلهم أعاجم في أصولهم العرقية بلا خلاف ولا مراء، حيث اضطرت هذه القبائل إلى تعلم العربية لتعرف دينها ورسالة ربها، أما العرب فكانوا محصورين في شبه الجزيرة العربية (اليمن والطائف والحجاز وما جاورهما).
لكن هناك حقائق يجب أن يفهمها كثير من الدهماء الذين يتهافتون للانتماء للعروبة، ويتفاخرون بالأنساب:
1 أن النسَب في أصله مجرد نطفة أمشاج خرجت من مكان مستقذر، ودخلت في مكان مستقذر، ولا يؤثر على طبيعة الإنسان سلبا ولا إيجابا، والخوض في الأنساب مهنة الفاشلين والأغبياء، ولا ينبغي للعاقل أن يشغل نفسه به.
2 أن خالق الخلق جلَّ جلاله قال وهو أعلم بخلقه (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) والرسول صلى الله عليه وسلم يقول “لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى”، “كلكم من آدم وآدم من تراب”.
3 أن العرب كانوا من أذلِّ الأمم وأكثرها بداوة وتخلفا، حيث كانت تتقاسمهم الروم والفرس والحبشة، ويخافون أن يتخطفهم الناس، حتى أعزهم الله بالإسلام، وكلما ابتغوا العزة بغيره أذلهم الله، فحين تخلوا عنه في العصور الوسطى اجتاحَهم المغول والفرنج، وحين خذلوه في العصر الحديث استعمرتهم الأمم الأخرى.
4 أن الأنساب في موريتانيا وغيرها من دول العالم، اختلطت وامتزجت بسبب الحروب أحيانا، وعن طريق المصاهرة والمكاتبة والمجاورة أحينا أخرى، حتى ذاب بعض الناس في بعض إلى درجة أنه لم تعد هناك قبلية واحدة خالصة لذاتها.
5 أن ادعاء حفظ بعض الناس لأنسابهم بشكل متسلسل إلى قرن بعيد لا أساس له من الصحة فأشرف الخلق محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عن نفسه: (لا ترفعوني فوق عدنان) جده العاشر، لأن ما وراء ذلك اختلط ولم يعد محفوظا، ولا أحد يشك في أنه من ذرية إسماعيل، لأن الطريقة التسلسلية في حفظ الأنساب تنتقل من انتماء الشخص إلى اسمه العائلي المشهور، ثم إلى اسم عائليِّ آخر أرفع وأشهر، وهكذا، وما بين اسم الأب والجد العائلي المشهور تضيع الأسماء الواسطة بينهما لعدم شهرتها.
6 أن هوس الانتساب للعروبة وقريش بشكل خاص لم يقتصر على قبائل موريتانيا بل وصلت عدواه إلى قبائل الزنوج في السنغال ومالي وبوكينا فاسو وغانبيا والنيحر، حيث توجد هناك عشرات القبائل التي تعود أصولها – حسب زعمها – إلى بعض الصحابة من قريش خاصة، فمنها من يقول إن نسبه يرجع إلى حمزة بن عبد المطلب (ذلك الذي لم يعقب) ومنها من يدعي الانتماء لعمر بن الخطاب، ومنها من يرى أنه من سلالة الزبير بن العوام، ومنها من يقول إنه من ذرية عبد الرحمن بن عوف، ومنها من يرجع أصله إلى أمية بن عبد شمش، ومنها إلى عقبة بن عامر الجهني الصحابي، ومنهم من يقول إنه من ذرية الحسن البصري التابعي، ومنهم من يدعي الانتماء لمحمد البُوصيري؟!
لكن الغريب أنك لا تجد قبيلة تنتمي إلى أبي جهل، أو أبي لهب أو مسيلمة الكذاب أو أمية بن خلف أو الوليد بن المغيره، وهذا دليل على انتحال بعض الناس لأنساب غير صحيحة، ثم إنك قلَّ أن تجد من يدعي الانتماء إلى قبيلة غير قريش مثل (بجيلة ونمير) مع أن هناك عشرات القبائل العربية، الرفيعة والوضيعة؟!
أما الجدل حول طبيعة قبائل (صنهاجة واكتماه) هل هما عربيتان أم بربريتان فسنخصِّصُ له مقالا مستقلا في حلقة قادمة إن شاء الله.