ندما يتحدث القرآن الكريم عن عجائب الكون وخلق الإنسان والطيور والنحل والنمل، فهو يهدف إلى تعزيز الذكاء الطبيعي، وتعزيز التعلم عن طريق المحاكاة بالتنظيم الطبيعي المثالي وبنظام التنظيم الذاتي، وعلى المجتمع (الأمة) أن يحاكي النظام البيئي الطبيعي؛ لتحقيق حضارة بشرية مستدامة (د. عودة راشد الجيوسي).
والمفكر يشبه في عمله النحلة، التي تطير الأميال الكثيرة، وتقطع المسافات الشاسعة؛ كي تحط على الكثير من الأزهار والنباتات، وتمتص ما لا يحصى من ألوان وأشكال الرحيق ثم تحيله إلى شراب، فيه شفاء للناس، وذلك الشراب لا يشبه أي شيء مما حطت عليه النحلة.
إذن فهناك جهود كثيرة ورحلات مكوكية أكثر يبذلها النحل للحصول على الرحيق الذي يصنع منه العسل، وكذلك الفكر، يحتاج إلى جهود كبيرة وتضحيات أكبر بالجهد والوقت والمال للحصول على الفكر الناضج.
وكما أن النحل لا يحصل على رحيقه من زهرة واحدة، بل يتنقل بين عدد كبير جداً من الأزهار للحصول على هذا الرحيق، وكذلك الفكر، لا يكفي أن نعتمد فيه على كتاب واحد أو عدة كتب، أو مؤلف واحد أو عدة مؤلفين، بل لا بدّ من التوسع والانفتاح على كل الكتب وعلى كل المؤلفين؛ للحصول على الفكر العميق الواسع.
وكلما كانت الأشجار التي تمتصّ النحل منها الرحيق (نوعية)، كان العسل أكثر جودةً وفائدةً، وكذلك الفكر، كلما كانت الكتب أو المفكرون أو العلماء الذين يقرأ لهم، أو يُتعلم على أيديهم عظماء، حصلنا على أفكار أكثر رقياً وأصالة.
ومع هذا فإن القراءة المبالغ بها لا تجعل منا أذكياء أو مفكرين، والمساهمة الشخصية في هذا المجال ضرورية، مثلما هو ضروري للنحلة العمل الداخلي والزمن؛ لكي تحوِّل رحيق الأزهار المتجمِّع إلى عسل. والكتاب الممتاز كالدواء لا يفيد كل الناس، وكالثوب الجيد لا يناسب جميع من يلبسه.
والنحلة عندما تمتص الرحيق من الزهرة تعيد صياغته ومعالجته ليصير عسلاً، وكذلك المفكر الرائد، لا يأخذ الأفكار من الآخرين كما هي دون تمحيص، بل يعيد صياغتها ومعالجتها، فيضيف ويحذف وينقد، وعندها تصبح تلك الأفكار من بنات أفكاره هو.
ويا لَلأسف! كما يقول مالك بن نبي (رحمه الله) فليس هناك أقبح من الجهل حينما يتزيّا بزي العلم وينبري للكلام. فالجهل المحدود كجرحٍ ظاهرٍ يمكن علاجه. أما جهل العالم: فهو غير قابل للشفاء؛ لأنه أخرق، مراءٍ، أصمُّ، مغرور.
وكلمة (الحق) كلمة مغرية! إنها كالعسل يجذب الذباب ويجتذب الانتفاعيين، بينما كلمة (الواجب) لا تجتذب غير النافعين. وكلمة الواجب على الصعيد السياسي توحد وتؤلف، بينما كلمة (الحق) تفرق وتمزق.
إن شعار النحل والنمل المرفوع دائماً: لا قيمة لحياتي عند تعرض سلامة المجتمع للخطر، وهذا هو شعار الشهداء في أمة الإسلام، وهذه هي ثقافة الواجب التي بموجبها تنهض الأمم.
وما في الخلية من عسل ليس مجهود نحلة واحدة، بل هو جهود كل مَن في الخلية، تصبه في الخلايا المعدة لذلك ثم تعالجه ليصبح عسلاً، وكذلك الفكر، لا يصبح أصيلاً وراقياً إلا إذا حدث تلاقح للأفكار، ولاكته الألسن نقاشاً وحوراراً ومعالجة ليصبح فكراً ناضجاً.
والنحل عندما يجمع العسل لا يجمعه لنفسه فقط، صحيح أنه يتغذى منه، ولكنه يقدم الكثير منه لبني الإنسان، وكذلك المفكر، لا يحتكر فكره لنفسه أو القريبين منه، بل يمنحه لبني الإنسان على امتداد الزمان والمكان.
والنحل كذلك يصنِّف ما يجمعه ولا يضعه في خلية واحدة، وهذا هو الشرط الوحيد الذي نشترطه لطبيعة مساهمات المفكرين في خدمة دينهم ووطنهم، وهو أن يكون ما يصبونه في بحيرة أوطانهم متجانساً، فلا يصب بعضهم ماء، وبعضهم عسلاً، وبعضهم خلاً، فتكون النتيجة مزيجاً غريباً، لا نعرف كيف سنستفيد منه ولا لأي شيء سنستخدمه.
وكما أن عسل النحل غذاء وشفاء لجسم الإنسان، فإن الفكر غذاء وشفاء لعقل الإنسان وروحه.
وطالما أن المرء لا يستطيع تسمية ما ينتابه من شعور بعدم الراحة أو عدم السعادة، فلا أمل في الشفاء.
ولست أدري كيف يمكننا أن نبحث في العلاج أو نتناول الدواء، ونحن ما زلنا ننكر أننا نعاني من أية متاعب؛ حيث إن معرفة السبب هنا غاية في الأهمية، لا ليبطل العجب فقط كما يقال، ولكن على أساس أن معرفة السبب تحديد لنوع العلاج، ومن ثمَّ وصف الدواء؛ إذ لا علاج إلا بعد تشخيص، ولا تشخيص إلا ببيان السبب أو الأسباب.
فما أنزل الله من داء إلا أنزل له دواء، وإن كل نظرية أو رؤية يقدمها المفكرون، تفضي بالناس إلى الحيرة والعطالة، ليست بنظرية، وليست برؤية سديدة.
ولكن يبدو أن تبلّد الإحساس كالحماقة داء لا دواء له، ويبدو أننا أُصبنا بداء حب القديم ولو كان ضاراً، كما يحب المريض علَّته، مؤثراً إياها على مرارة الدواء ومشاق الشفاء.