من أروع ما قرأت
فاصل ثم تواصل / البشير ولد عبد الرزاق
لأوطان قصص وحكايات، منها ما يحتفى به، ومنها ما يكون من نصيب سلال المهملات، وتلك سنة الحياة :
في الرابع والعشرين من تشرين الثاني نوفمبر 1965، تسلل موبوتو خلسة مع خيوط الفجر الأولى، إلى قصر تشاتشي في مدينة كينشاسا، قام بفعلته الشنيعة تلك، بعدما تخلص من ولي نعمته باتريس لومومبا، وجعل قلب الكونغو الصغير وقتها، يتفطر حزنا على بطلها المحبوب، الذي مات رميا بالرصاص، في ليلة ظلماء داخل غابات كاتانغا، بعيدا عن الديار والأهل والرفاق،
أصبح موبوتو “الكل في الكل”، وجعل يدس أنفه في كل صغيرة وكبيرة من حياة بني وطنه، فرض عليهم أن يغيروا ملابسهم وأحمر شفاه زوجاتهم وماركات معاجين أسنانهم وورق حماماتهم، جعلهم يغيرون كل شيء في حياتهم حتى أسماءهم، وأتخذ هو لنفسه اسما طويلا، كان أثقل ظلا من صاحبه : “موبوتو المنتصر دوما والذي لا يقهر”،
حكم موبوتو البلاد بفرمان إلهي، كان معارضوه يقتلون ويسحلون في كبريات مدن البلاد وفي حرم الجامعات وساحات المدارس، وتترك أجسادهم فريسة للذباب والكلاب والذئاب، وفي سنة واحدة، أهدى الكونغو “زاءاته” الثلاث الشهيرة، فأصبحت الدولة وعملتها ونهرها يحملون جميعهم اسم “زائير”،
المضحك في الأمر، هو أن الرجل فعل كل ذلك، بدعوى أنه كان يحرر شعبه من براثن الاستعمار ويغسلهم من أدرانه، هو الذي كان يقضي جل وقته في عواصم الغرب، يشرب الشمبانيا ويأكل الكافيار ويتحسس أجساد الشقراوات،
وإذ يبلغ ذروة سطوته، ينهار كل شيء من حوله، في لحظة واحدة، كقلعة من ورق، وينتهي الأمر بموبوتو وحيدا، حبيس غرفة بلا نوافذ، داخل أحد مستشفيات العاصمة المغربية الرباط، يصارع مرض السرطان وتطارده الأشباح والكوابيس،
وحين يموت المارشال، ترسله الكونغو إلى سلة المهملات، هو وعلمه وعملته ونياشينه وبقية زاءاته، بعدما أدركت أنه كان مجرد “فاصل”، جملة اعتراضية، يمكن لتاريخ البلاد ونهرها وقبائلها التي بعدد النمل، أن يستقيم بدونها،
سيكون على جثمان موبوتو أن ينتظر عقدا ونيفا من الزمن في المنفى، حتى تشفق عليه الكونغو، وتسمح بأن يدفن تحت ثراها،
اتقوا بطش التاريخ، فهو حين يقسو لا يرحم، كان يمكن لزين العابدين، أن يقرأ قصة موبوتو ويعيد قراءة فصولها مرات عديدة، أمام الموقد، في ليالي قصر قرطاج الهادئة الدافئة، لكن الرجل لم يفعل، اعتقد المسكين، أن ما حدث للمارشال لا يعنيه في شيء،
انتهى الأمر ببن علي، عالقا داخل طائرة معلقة في السماء، لا أحد يعرف وجهتها، حتى قبطانها نفسه،
روي أن ابن الرئيس المدلل، سأل المضيفة قطعة شوكولا، فردت :”لا توجد شوكولا هذا المساء”، لم يصدق الصبي قولها، فطائرة أبيه كانت دائما عامرة بأنواع الشوكولا البلجيكية والسويسرية والفرنسية، ظل الصغير يلح في طلبه وحين يئس، دفن رأسه في حضن المضيفة، وبكى بحرقة حتى نام،
في تلك الليلة، لم يكن هناك لوح شوكولا واحد، ولم تكن هناك وجهة محددة، طائرة الرئيس كانت تستعطف المطار تلو المطار، تفتش عن مدرج يشفق عليها، ويمنحها حق اللجوء ولو مؤقتا،
المطارات التي كانت تفرش البساط الأحمر، لسيادة الرئيس، وتستقبله بالأناشيد وباقات الورد تحملها فتيات يافعات، هاهي تتقاذف طائرته كقطعة بطاطا ساخنة، السياسة مضحكة أحيانا،
…في ذلك المساء الأخير، حين قرر الشيوخ الاعتصام داخل مبنى مجلسهم، ألحت علي رغبة غريبة، أن أستمع ل”نشيد الأرض”، “أغنية يا أمنا”، حاولت أن أجد طريقة أتملص بها من تلك الرغبة البلهاء، لكنني في الأخير، استسلمت ورضخت لها،
بدل المرة الواحدة سمعت الأغنية مرات عديدة، وفي كل مرة كان تأخذني إلى حدود المرارة والبكاء، الراحل فاضل أمين، والراحلة ديمي بنت آبه، وكدت أقول الراحلة موريتانيا، لولا أن تداركت نفسي وأشفقت على وطني،
وهو يجوب المنافي، كان شاعرنا الكبير محمد مهدي الجواهري، إذ يحدث عن وطنه العراق، يلفظ اسمه بضم العين، وعندما ألحوا عليه في السؤال، لماذا يفعل ذلك؟، رد عليهم بحسرة : “يعز علي أن أكسر عين العراق”، الأوطان هي الأوطان، مهما تبدلت أو جارت الأزمان،
فاضل أمين، الذي رحل عن دنيانا ولما يكمل بعد عقده الثالث، لو لم يكتب من الشعر غير “نشيد الأرض”، لما نقص ذلك من ذكره شيئا، هناك قصص نعدها قصيرة جدا، لكن التاريخ يحولها إلى حكايات باذخة ومدهشة، وهناك حكايات نخالها طويلة ولن تنتهي، لكن التاريخ يحولها إلى لحظة بائسة ومثيرة للشفقة، كما حصل مع صديقنا المارشال وشقيقنا الرئيس، التاريخ هو شيخ الساخرين،
مارغريت ميتشل، أشهر الروائيات الأمريكيات، لم تكتب في حياتها سوى رواية واحدة، “ذهب مع الريح”، منحتها عشر سنوات من عمرها، نحتت كلماتها الواحدة تلو الأخرى، ونسجت مشهدياتها الإنسانية الحزينة بصبر، ثم قضت في حادث سير، بعدما دهسها سائق مخمور بعربته،
لم تخيب الرواية الوحيدة ظن صاحبتها، منحتها شهرة عالمية ومنحتها جوائز أدبية ومنحتها ما هو أغلى من ذلك كله، مكانا دافئا داخل قلوب الأمريكيين وغير الأمريكيين،
قصة حياة فاضل أمين، تشبه كثيرا جريمة كاتانغا، التي سجلت ضد مجهول، فقد مات الرجل بعيدا عن الديار والأهل والرفاق، وهي تشبه كذلك حكاية مارغريت ميتشل، ليس لأن سائقا مخمورا دهسه بعربته، فالذي دهس شاعرنا كان زمنا سياسيا رديئا، بل يشبهها، لأنه صنع هو الآخر لنفسه، وطنا جميلا داخل قلوب الموريتانيين وغير الموريتانيين، ما زال يسكنه حتى اليوم،
وأما سجانوه وجلادوه والواشون بقصائده، وزوار الفجر، الذين “استجوبوا حتى الشقيق الأصغر”، فكل أولئك لم يبق لهم من أثر ولا ذكر، ذهبوا جميعهم مع الريح، تماما كما ذهب المارشال والآخرون، لفظتهم الذاكرة، طردتهم خارجها، نفضتهم عن جسدها، كما ينفض أحدنا ذرات الغبار حين تعلق بثوبه،
الأوطان قصص وحكايات، منها ما تحتفي به الذاكرة، فتحوله إلى مزارات، ومنها ما تسقطه، فترسله إلى متاهات النسيان،
صحيح أن الأوطان، قد تأخذ أحيانا “فاصلا”، قد يقصر وقد يطول، كما حدث مع موبوتو وبوكاسا وماو تسي تونغ وسالازار وهتلر وموسولوني وفرانكو وبينوشيه وستالين وبن علي ويحي جامي…،
لكن الأوطان، ما تلبث أن تعود لتواصل طريقها من جديد، وهي حين تعود، تكون أكثر عنفوانا وشموخا وكبرياء، وتكنس في طريقها، كل الضحالات والفظاعات والفظاظات، التي نبتت في أزمنة الغياب،
“غدا…يوم آخر”، سكارليت أوهارا، بطلة رواية “ذهب مع الريح”.