الحج موسم المساواة ( مقال نقدي )
الحج.. شعائر الله الداعية إيانا للتفكر.. الحج بمكانه بزمانه، بإحرامه، بنفيره، بطوافه، بسعيه، بصعوده، موسم التلبية، موسم العيد الكبير، موسم التفكر في المعنى، التفكر فيما وراء ما نفعله.. وفي سؤال ما نفعله؟ فيما نشعره ولا ندري لما نشعره.
ما الذي يفعله فينا الحج كل عام؟
الحجاج منا يقصدون الكعبة محمّلين بأمنياتنا وأمنياتهم التي تتصاعد أدعية للرحمن الرحيم، رجاء العالمين.
أهالي الحجاج يلتزمون اشتياق عودتهم وتحضيرات الزينة للعيد ولاستقبال العائدين من بيت الله واستقبال هداياهم مهما كانت بسيطة.
الأخبار تنقل لنا قلب العالم الإسلامي، تلبية الحجاج، حوادثهم، وأي طارئ سياسي يؤكد وحدة العالم الإسلامي أو فرقته.
ماذا أيضاً؟ الأسئلة، موسم السؤال عن معنى تقبيل الحجر الأسود؟ عما نعتقده إذ نرمي الجمرات! موسم التذكر.. تذكر قصص الذين ذهبوا وقالوا لنا عن رهبة النظر إلى الكعبة، تذكر قصة “هاجر” في سعيها المحموم من أجل سُقيا وليدها! تذكر القصص الذي يحكي لنا رؤيا إبراهيم يذبح ابنه.. ما كل هذا الذي يوقظه فينا الحج كل عام؟!
الحج.. شعائر الله تلزمنا: حق التفكر حق السؤال حق التذكر حق التعلم حق النظر في وجهه الكريم، حق السفر لبيته العتيق، حق المساواة.
إنا خلقناكم من “ذكرٍ” و”أنثى” وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا.. جميلة صورة الحجاج حول الكعبة أو فوق عرفة.. طوفان هائل من الناس، وكأن كل البشر مجتمعون هنا.. رجالهم ونساؤهم، أطفالهم وكبارهم، مجتمع إنساني كامل متوحد، فيه الخير وفيه الشرير، الطيب والسيئ، المتعلم والأمي، مختلطون متوحدون متآلفون معاً.. أليست هذه رسالة الإسلام؟ أوليس هذا معنى “المجتمع” في ديننا الحنيف؟
أتساءل وأنا أنظر إلى لوحة عظيمة رسمها هؤلاء الرجال والنساء معاً وهم يؤدون هذه العبادة العظيمة: ألا يراجع بعض فقهائنا الكثير من فتاواهم ويسائلوا أفهامهم التي تأسست على حرمة اختلاط النساء والرجال، وفصل المجتمع المسلم إلى شطرين: ذكوري له القوامة “مسيطر” وآخر أنثوي عليه الطاعة “مسير”؟
أكبر وأعظم عبادة إسلامية هي الحج، وهي بوضوح عبادة “مختلطة”؛ إذ كان لا بد وأن نرى فصلاً بين النساء والرجال، كان الأولى بنا أن نراه في الحج، في هذه العبادة المختلطة المتعبة الطويلة المزدحمة المتداخلة المتدافعة بالذات! ألم يكن من الممكن أن يشرع الحج مفصولاً، يوم للرجال وآخر للنساء ومكان للرجال وآخر للنساء؟ لكن الوحي شرعها هكذا دون فصل، يطوف ويسعى كل من الرجل والمرأة في نفس الزمان والمكان إلى جانب بعضهما البعض لا يفصل بينهما حاجز، كل منشغل بمناجاته وتلبيته وهمومه.
فمن أين جاء هذا الكم الهائل من الفصل بين الرجال والنساء في موروثنا الإسلامي؟ بل كيف ابتدع مصطلح “الاختلاط” في الأصل حتى صار ركناً ثابتاً مسلّماً به في الدين؟ وكيف صار ظهور المرأة إلى جانب الرجل في المجتمع انحرافاً عن الدين.. وضياعاً للأخلاق.. وبُعداً عن الإسلام؟ وصار الأصل ألا تخرج المرأة من بيتها وألا يراها إلا زوجها؟
في المسجد، وهو المجتمع المسلم الصغير، أليس غريباً أن يكون المدخل الرئيسي الكبير مخصصاً للرجال، وأما النساء فلا يدخلن إلا من بوابة صغيرة منزوية، ولهن مصلى منعزل غالباً تحت الأرض أو في السّدة، في حين كان الرجال والنساء في عهد الوحي يصلون في نفس فراغ المسجد النبوي دون فاصل بينهم! أوليس غريباً في المجتمع المسلم أن يكون صوت المرأة عورة ووجهها سفوراً وعقلها ناقصاً وعملها تمرداّ؟! كيف صارت المرأة في بعض أوجه الفقه الإسلامي كائناً غريباً عن بشريتنا يجب أن نغطيه بالسواد وأن نسجنه خلف جدران البيوت؟!
في غزوة بني قينقاع، جرّد الرسول القائد عليه الصلاة والسلام جيشاً لنصرة امرأة، قام يهودي بالتحرش بها دون أن نقرأ في الآثار أي استنكار من الرسول القائد لذهاب تلك المرأة إلى سوق اليهود للتسوق وحدها دون محرم.. لم يكن خروج المرأة إلى السوق يشكل انحرافاً عن الدين حينها.. فمن أين جاءت فكرة الأسواق والمتنزهات والبنوك غير المختلطة؟ وكيف سميت بأنها “شرعية”؟! أي أنها تطبيق للشريعة الإسلامية!
في بعض دول الإسلام لا يمكن للمرأة هناك أن تسجل شركة تجارية أو تقبل للابتعاث والدراسة دون موافقة محرم من الذكور استناداً إلى فتاوى فقهية! رأيت يوماً من الأيام صبياً في الثامنة عشرة من عمره يوافق على تزويج أخته الكبرى التي تبلغ السادسة والثلاثين من عمرها! أي منطق وأي حكمة في هذا؟! ونحن نتغنى ليل مساء بأن ديننا هو منبع الحكمة وبيت المنطق والفكر السليم! أليس في علمائنا رشيد يتنبه لخلل كهذا؟
في أُحد قاتلت “أم حكيم” الصحابية الجليلة إلى جانب الصحابة في المعركة.. كانت جندية مقاتلة في الجيش متساوية بالرجال تقاتل الأعداء من الرجال، وفي بعض فقهنا الغريب شرط يمنع المرأة من تولّي الرئاسة والقضاء! أليست هذه عنصرية ذكورية ضد المرأة وعدم مساواة لها مع الرجال باسم الدين لم تكن موجودة في عهد الوحي؟!
بأمر من الله تجمع مليونا رجل وامرأة ملبّين معاً على صعيد واحد، اختلطوا بلا سواتر أو حواجز، والبعض في مجتمعنا المسلم لا يطيق اجتماع عشرة رجال ونساء معاً في موقع للعمل، بعض القبائل في جنوب جزيرة العرب لا يمكن للرجل أن يرى وجه زوجته طيلة حياته ومن المعيب أن تجلس بجانبه في السيارة وحرام بفتوى كبار العلماء أن تقودها!
في الماضي القريب من الوحي الخالد، عين الرئيس الثالث لدولة الإسلام “عمر الفاروق” امرأة وهي “الشفاء بنت عبد الله” بوظيفة محتسبة، أي رئيسة لبلدية المدينة المنورة بمرتبة وزير، تمشي في الأسواق وتراقب تجارها من الرجال وتسجنهم إذا تجاوزوا القانون، وفي إمارة طالبان الإسلامية على بُعد ألف سنة من الوحي منعت البنات الصغيرات بأمر من طلاب العلم الذكور من دخول مدرسة البنات الابتدائية باسم الدين – طبعاً مع احترامي الشديد لجهاد طالبان ضد الغزو الأميركي لبلادهم.
حضرن بيعة العقبة، بايعن تحت الشجرة، شاركن في النصر والهزيمة، صلّين من الفجر حتى العشاء في المسجد، آمراتٍ بالمعروف ناهياتٍ عن المنكر.. مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات، هكذا كنّ وهكذا يريد القرآن لهن أن يكنّ.. ويريد لنا أن نكون.. حاجين إلى الله وزادنا التقوى.
يستل بعض العلماء سيوفاً حادة في مواجهة المرأة محددين لها كيف تلبس وكيف تأكل وكيف تتكلم وكيف تتعطر وكيف تركب وكيف تنظر وكيف تتصور وكيف تعمل وكيف تدرس، وكيف تتنفس، وارتفاع كعبها ولون خمارها ومكان جلوسها، في حين يتحول نفس هؤلاء العلماء إلى كائنات وديعة مع الحاكم الظالم السارق المغتصب القاتل المنحرف الفاجر… محرمين أي خروج عليه أو مقاومة لاستبداده وفجوره، بل حتى مجرد معارضته أو نصحه! فقط إن كنت مظلوماً ليس لك إلا الدعاء حسب فقه الفتن الذي ابتدعوه.
خروج المرأة إلى العمل واختلاطها بالرجال “فتنة”، وخروج المظلومين على الظالم المستبد ثائرين منتفضين على ظلمه “فتنة”، أي مقاربة بائسة انحدروا بنا إليها؟!
أسود على النساء الضعيفات ومع الحكام الفجرة نعامات وديعة!
هذه البداوة التي تسللت إلى دين الله فصارت فقهاً يجب أن تراجع، وهذه الذكورة التي تعطي للرجل الحق الإلهي في إدخال المرأة إلى النار يجب أن تصحح.
النساء شقائق الرجال، وجوههن ليست عورة، وصوتهن ليس بفتنة، لهن مثل ما للرجال من الحقوق وعليهن مثل ما على الرجال من الواجبات، ما أهانهن إلا لئيم وما أكرمهن إلا كريم.
محمد عدنان الكيلاني